
في كتابه “حرب خالصة” الصادر عام 1983، صاغ الفيلسوف الفرنسي بول فيريليو مصطلحاً سيحقق في السنوات التي تلت انتشاراً واسعاً أكثر مما كان يتوقع على الأرجح، حيث قال “هذا ليس عصر الديمقراطية بل عصر السرعة”.
أود معرفة رأي فيريليو في الحد الذي وصلت إليه سرعة الحياة في يومنا هذا بعد أربعين سنة. هل كان سينظر إلى فترة الثمانينيات على أنها سريعة عندما يعلم أننا قادرون الآن على تحميل نسخة رقمية من كتابه في غضون دقائق؟ أو أنني عندما أنتهي من كتابة هذه المقالة سأرسلها بالبريد الإلكتروني وستصل إلى مسؤولي التحرير بعد حوالى 0.2 جزء من الثانية، أي في رمشة عين حرفياً؟ أو أنه كان بالإمكان، لو أن الفيلسوف ما زال على قيد الحياة، إجراء مقابلة معه في الوقت الفعلي وبالصوت والصورة من أي مكان في العالم عبر تطبيق على جهاز لا يتجاوز حجمه كف اليد يسمى الهاتف الذكي؟
قرن الاختراعات
تسعى البشرية منذ بدايتها إلى تطوير أدوات ووسائل تجعل الحياة أسلس وأكثر أماناً وتوفر الوقت والجهد، لكن في الواقع، كانت النقلة النوعية الأولى في القرن التاسع عشر الذي شهد تطورات مذهلة في تقنيات النقل والبناء والتصنيع والاتصالات التي نشأت في أوروبا. بعد الركود في نهاية ثلاثينيات ذلك القرن والتباطؤ العام في الاختراعات الكبرى، كانت الثورة الصناعية الثانية فترة من الابتكار والتصنيع السريع بدأت في ستينيات القرن التاسع عشر واستمرت حتى الحرب العالمية الأولى، وشملت تطويراً سريعاً للتقنيات الكيماوية والكهربائية والبترولية وصناعة الصلب المرتبطة بأبحاث تقنية على مستوى عال.
شهدت نهايات القرن التاسع عشر والقرن العشرون ابتكارات جلعت الحياة أكثر سهولة وغيّرتها تماماً وإلى الأبد. من بين أبرز الاختراعات التي كان لها دور كبير في أسلوب عيشنا اليوم هو الراديو الذي سبب عند إطلاقه في عام 1895 حالة من الجنون عندما تمكن من ربط العالم عبر موجات الأثير غير المرئية ولعب دوراً مهماً في الحربين العالميتين وكان بداية الترفيه المشترك الذي تستمتع به العائلة والأصدقاء ومصدراً مهماً وسريعاً للأخبار.
كان التلفزيون التطور الطبيعي لنجاح الراديو، وأحدث ظهوره في عام 1934 طفرة في المحتوى الذي بات يصل إلى الجمهور بالصوت والصورة.
كانت التنقلات في الماضي عن طريق ركوب الأحصنة أو الحمير أو النوق، وبعد ذلك تحولت إلى عربات تجرها الحيوانات. ظل الحال كذلك إلى عام 1886 لما حصل كارل بينز على شهادة اختراع أول عربة تعمل بالوقود، وخضعت لتطويرات عدة إلى أن وصلت في عام 1908 إلى مركبة تعمل بمحرك وتمتلك نوافذ وتسهل قطع مسافات طويلة في مدة زمنية قصيرة وتشبه كثيراً السيارات التي نركبها في يومنا هذا.
في حين أن اختراع الطائرة يعود إلى الأخوين رايت في عام 1903، إلا أن تجارب الطيران الحقيقية لم تبدأ حتى عام 1934، وشهد القرن العشرون تطوير طائرات النقل والشحن والطائرات المقاتلة.
ومع أن اختراع أول كمبيوتر كان في عام 1934، إلا أنه كان بحجم غرفة ضخمة ويمتلك ذاكرة صغيرة جداً، ولم يتحول إلى جهاز يمكن اقتناؤه في المنازل إلا في عام 1976 لما طور ستيف وزنياك أول جهاز كمبيوتر شخصي يحمل اسم “أبل 1” واقترح صديقه ستيف جوبز تسويقه. تطور هذا الاختراع إلى جهاز محمول يعمل بالبطارية (لابتوب) في عام 1981 مع جهاز “إيبسون أتش إكس” الياباني.
تبعت ذلك ولادة الإنترنت في عام 1983 التي باتت منذ ذلك الحين أداة أساسية في حياة البشر وتساعد في تسيير أعمالهم اليومية وتواصلهم وتمكنهم من تصفح مواقع مختلفة ومشاهدة مقاطع الفيديو ومتابعة الأخبار والبحث عن المعلومات والمحتوى. يعد الإنترنت الآن الاختراع الأكثر تأثيراً في حياة البشر على مر التاريخ.
لعب الهاتف دوراً كبيراً في حياة الناس خلال القرن العشرين، لكنه اتخذ شكلاً جديداً بالكامل في عام 1973 عندما طرحت شركة “موتورولا” أول جهاز هاتف محمول، ثم تطورت وظائفه واستعمالاته تدريجاً مع مرور السنين وانتشر على نطاق واسع بسرعة كبيرة منذ إدخال خاصية الاتصال بالإنترنت.
الإنترنت: الثورة الحقيقية
العامل الذي لعب دوراً كبيراً في سرعة تطوير التكنولوجيا وسهولة ذلك ووصولها إلى المستخدمين كان الزيادة الكبيرة في عدد الأشخاص المتصلين بالإنترنت ويمتلكون خدمة النطاق العريض السريعة في منازلهم. بحسب الإحصائيات الأميركية كان أقل من نصف الأميركيين يمتلكون وصولاً سريعاً إلى الإنترنت في مطلع الألفية بينما تجاوزت نسبتهم اليوم 90 في المئة.
بالتأكيد لم يقتصر توسع الوصول إلى الإنترنت على الولايات المتحدة الأميركية، حيث يمكن رؤية نمو مماثل على مستوى عالمي. في حين كان أقل من 7 في المئة من سكان العالم متصلين بالإنترنت في عام 2000، فإن أكثر من نصف سكان المعمورة لديهم وصول سهل إلى الشبكة.
كذلك كان هناك انتشار مماثل في استخدام الهاتف المحمول. في بداية العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، كان هناك 740 مليون اشتراك في الهواتف المحمولة في جميع أنحاء العالم. وبعد عقدين من الزمن، تجاوز هذا الرقم 8 مليارات، أي أن عدد الهواتف المحمولة في العالم يفوق عدد سكانه.
في الوقت نفسه، أصبحت التكنولوجيا شيئاً أكثر شخصية وقابلاً للحمل. باعت شركة “أبل” أول جهاز “آي بود” iPod في عام 2001، وبعد ست سنوات قدمت جهاز iPhone، الذي بشر بعصر جديد من التكنولوجيا الشخصية. أدت هذه التغييرات إلى عالم تدخل فيه التكنولوجيا في كل ما نقوم به تقريباً، من العمل إلى كتابة الملاحظات وطلب الطعام والملابس وعدد لا يحصى من الحاجيات الأخرى مروراً بالتقاط الصور والتواصل مع الأصدقاء والمعارف والاطلاع على الأخبار وأحدث التوجهات. عملياً بات الهاتف نافذة يطل منها كل فرد على العالم.
أدى هذا التطور الهائل في تقنيات الاتصال إلى تغيير مباشر في حياة الناس من خلال الخدمات العامة والتطبيقات في مختلف القطاعات مثل: المرافق العامة، النقل والخدمات اللوجستية والأمن والتصنيع وتجارة التجزئة والصحة والتعليم والخدمات المالية والترفيه. بالتالي زاد عدد الشركات التي تسعى إلى تأمين هذه الخدمات، حيث وصل عدد الشركات الناشئة في مجال التكنولوجيا في بداية هذا العام إلى 1.35 مليون شركة حول العالم.
غيرت التكنولوجيا القطاعات الرئيسة على مدار العشرين عاماً الماضية، بما في ذلك وسائل الإعلام والعمل المناخي والرعاية الصحية.
قرن التسارع التقني
ما يميز قرننا الحالي هو أن أغلب الابتكارات التي حدثت خلاله حتى الآن هي في المجال التقني لأنه يسهم بدرجة كبيرة في تسهيل عمل القطاعات الأخرى ودقتها.
الابتكار الذي غير فعلياً استهلاكنا للإنترنت واستخدامنا للهواتف النقالة هو تزويدها بشاشات تعمل باللمس. كانت شركة “أبل” أول من طرح أجهزة بهذه الميزة في عام 2007 جعلت التعامل مع الهاتف أكثر سهولة وبساطة ومكنته من القيام بوظائف أكثر تعقيداً من الأجهزة السابقة.
بعد ذلك بثلاث سنوات، أصدرت “أبل” جهازاً آخر اعتبر ثورة في عالم التكنولوجيا هو “آيباد”، إذ إنه حاسوب كامل المواصفات ويؤدي المهام نفسها لكنه أخف وزناً وأصغر حجماً ويتم إدخال الأوامر إليه عن طريق لمس شاشته بدلاً من لوحة المفاتيح التقليدية.
كذلك كان لشركة “أبل” الفضل في إدخال الساعات الذكية إلى حياة الناس في عام 2015 والسماعات التي تعمل لا سلكياً بتقنية “البلوتوث” في عام 2016.
كان لإطلاق طائرات درون في عام 2013 تأثير كبير في مجال التصوير وبخاصة في أماكن الصراعات.
الحدث الثوري الآخر كان بدء استخدام السيارات الكهربائية التي كانت حلماً لسنين طويلة لما طرحت شركة “تيسلا” سيارتها الأولى في عام 2012. أثبتت التجربة فعاليتها حيث نجد الآن بعد أكثر من عشر سنوات أن شركات صناعة السيارات التقليدية الكبرى حريصة على إنتاج سيارات تعمل بالبطارية بينما تسعى إلى التخلي تدريجاً عن السيارات التي تعمل بالوقود الأحفوري.
كما شهد العقدان الأولان من الألفية تطوراً ملحوظاً في الطابعات ثلاثية الأبعاد القادرة بسهولة على طباعة أجزاء مركبة يتم تجميعها حتى نحصل على الشكل المراد تكوينه، وتمت الاستفادة من هذه الطابعات على نطاق واسع في الصناعة والطب والبناء، حتى أننا شهدنا في مارس (آذار) من هذا العام إطلاق الصاروخ “تيران 1” المصنوع بتقنية الطباعة ثلاثية الأبعاد.
ترجع السرعة الكبيرة للتطور التقني إلى أن الابتكارات في يومنا هذا باتت قادرة على تأدية أكثر من مهمة بينما أصبحت المنافسة كبيرة وشديدة ما يفضي عادة إلى خفض تكاليف إنتاجها.
تؤدي هذه التكاليف المنخفضة إلى زيادة إمكانية الوصول إلى التكنولوجيا الحالية، ما يجعلها أكثر انتشاراً، كما أن أغلب أشكال التكنولوجيا موجودة بالفعل وما يتم هو تطويرها والبناء عليها، وهي عملية أسهل وأسرع من الاختراع بالكامل.